المدينة والمواطنة
أ.د.عبدالحليم ابراهيم
الحدث هو احتفالات تسليم جوائز الدورة الرابعة لجوائز الاغاخان للعمارة وذلك في اكتوبر عام 1989
لم يكن انبهار سكان حي القلعة والاحياء المحيطة به واحساس المدينة باهمية هذا الحدث راجع لمعنى استضافة مدينتهم لهذه الجائزة الكبرى فحسب، ولكن ربما ما كان ادعى للانبهار والاهتمام ما طرحه الاحتفال من رؤيا لامكانية تطوير وترميم الاماكن التاريخية في اطار احداث احتفالات كبرى تعمل كاداة لبعث الذاكرة العمرانية للمدينة والربط بين المدينة وسكانها في علاقة حميمية تقع في صلب اهم العلاقات التي تميز اي مدينة كبرى وتعطيها حيويتها العمرانية. وهذه العلاقة الجوهرية نطلق عليها علاقة "المواطنة". إن علاقة المدينة بسكانها تعتبر علاقة مواطنة يتبلور فيها حس المواطنة لدى اهل المدينة خلال عملية عمرانية اساسية تمثل فيها المدينة ذاكرة الحضارة وسجل ابداعها، وتمثل فيها احداث المشاركة الكبرى في تشكيل وصياغة عمران المدينة وتحولاتها حيز التذكر واستحضار القدرة على الابداع والتشكيل. وحدث الاحتفال هنا مطروح كواحد من هذه الاحداث الكبرى حيث نتناقل تجربة احتفالات القلعة من الناحية التنظيمية والتقنية ولااجتماعية، باعتبارها اساساً لصياغة عملية ابداعية لبعث وإحداث علاقة المواطنة بين المدينة والسكان، وتوظيفها لإحداث مشاركة فاعلة ومبدعة. إن فكرة اقامة احتفالات تسليم جوائز الاغاخان للعمارة في مدينة من مدن العالم الاسلامي الكبرى تقوم على ربط الانجاز المعاصر للفكر والعمارة بالمنجزات التاريخية للحضارة الاسلامية والمماثلة في عمائر وعمران مدن كبرى تمتد من غرناطة غربا حتى سمرقند واسلام اباد شرقاً ان اختيار القاهرة لإقمة احتفالات الدورة الرابعة للجائزة عام 1989 تحديا بقدر ماهو تقدير لهذه المينة العريقة، فاثار القاهرة الاسلامية واحيزتها التاريخية تجمع بين الزخم التراثي والحيوية العمرانية من ناحية والتداعي والتدهور الخطير الذي تعيشه اثارها واحياؤها من ناحية اخرى ولعل اخطر ما في الامر هو تلك السلبية واللامبالاة بل وربما القطيعة المعنوية بين السكان والقائمين على هذه الاحياء وبين ما تحتويه مبانيها وساحاتها من اندر الاثار وأقيمها . ومن ثم قد كان طرحنا الاساسي للاحتفال هو ان يكون حدثاً هاماً لبعث قدرة المدينة على التذكر واستحضار دروس التاريخ معانيه الكامنة في مبانيهم وساحاتهم. حدث استحضار لذاكرة الابداع في الحضارة الاسلامية كما تمثله القاهرة، وليس فقط استخدام المدينة كخلفية او كحيز عابر لاقامة الاحتفال وقد طرحنا ثلاثة أهداف أساسية في اطار اطروحة المواطنة أولا: ان يكون الاحتفال اسهاماً في استكشاف معنى التاريخ في المدينة ثانيا: ان يكون اختيار المكان التاريخي والتصميم المقترح للاحتفال صياغة للعلاقة بين التعبير التاريخي من ناحية والمعاصر من ناحية اخرى ثالثا ان تكون احداث الاحتفال ذاتها مشاركة من اهل المدينة في التعرف على الدرس واستبطان معانيه معنى التاريخ في المدينة العلاقة بين المبنى التاريخي وحيزه العمراني هي علاقة معنى كامن بطاقة متجددة قادرة على التعبير الحي عن ذلك المعنى فالمبنى التاريخي قد بقي لأنه يحمل معنى بلور وترجم خلال رؤى وصياغات وتقنيات عصره، ولأن الاطار المعرفي ولافكري الذي صاغ هذه الرؤيا وكذلك التقنيات غير موجودة في اللحظة المعاصرة فان معنى التاريخ في المبنى يظل كامنا او غير فاعل الى ان تحركة ظروف محددة اما الحيز العمراني المعاش للمبنى التاريخي فهو دوما معاصر-معاصر لنشأة المبنى- ومعاصر لتطوره وتحوله ، ومعاصر للحظة التأمل والرغبة في التذكر والاستحضار . فالساحة والزقاق والغراغ التاريخي بما يتيحه من تدفق للحياة حول المبنى هو الحيز الذي يمكن ان تصاغ خلاله عملية استكشاف واستنهاض المعنى الكامن للتاريخ في المدينة. ومن ثم فقد كان تركيزنا في بداية التخطيط للاحتفال هو النظر في مصفوفة المعاني الكامنة في عمارة القاهرة وعمرانها واختيار الحيز العمراني المناسب للاحتفال الذي يمكننا من معالجة الاحتفال كاستكشاف معاني التاريخ في المدينة الساعي غلى التعرف على معنى التاريخ في مدينة القاهرة يواجه باشكالية اساسية لا تنفرد بها القاهرة وانما تشاركها فيها معظم المدن التي عانت من انكسارة او انفصامة تاريخية بين المعنى التاريخي للمباني وبين الحيز العمراني ونسق الحياة بها. وذلك الانفصام بين المعنى التاريخي ومقوماته وبين الحيز وآليته وقيمه تجعل من القاهرة في واقع الامر مدينتين وليست مدينة واحدة مدينة تتراكم فيها معاني التاريخ خلال المباني بصورة منسقة مع حيز التذكر وتمثل مبانيها سجل وذاكرة لمبادئ الحضارة الاسلامية منذ الفتح وحتى فترة محمد علي ومن ثم يمكن ان ينشأ بين هذه المدينة وسكانها صلة مواطنة والثانية، مدينة تتراكم فيها المعاني بصورة ليست لها علاقة بقدرة المواطن على التذكر لحيزه العمراني وهي تلك المباني التي بنيت بمصر منذ حقبة الخديوي اسماعيل حتى الآن وكل منها ينتمي معناه إلى اقتباس او تجريد لمبدأ او مفهوم ضمن اطار معرفي خارج عن اطار حضارة المدينة وأهلها، ومن ثم بعيد او مفصول عن قدرة التذكر لحيزه العمراني الذي يعيشه أهلها. ومن ثم فإن هذه المباني لاتعدوا أن تكون وسيلة توصيل او اشارة الى الحضارة الغربية وليست ذاكرة لها ساحات محمد علي كحيز عن الحداثة حددت دراسة معنى التاريخ لمدينة القاهرة اربعة اماكن في حقبة محمد علي كامكانيات لحيز الاحتفال، وهي قصر المناستيرلي بالقلعة، سراي محمد علي بشبرا، حديقة وقصر محمد علي بالروضة، وساحات ومنشآت محمد علي بالقلعة. وقد اختيرت القلعة لعدة اسباب اهمها -ان الساحات والمباني المحيطة بها برغم تهالك الكثير منها واحتياجها للترميم الا انها في حالة متكاملة من الناحية التعبيرية، يمكن تقريبا ارجاعها الى حقبة انشائها. -ان تتابع الساحات والاحيزة بالقلعة ما بين ميدان صلاح الدين وتواجده وسط النسيج الحي للمنطقة "القلعة والدرب الاحمر" من ناحية، وبين الساحات الخاصة داخل القلعة . والى الساحات الملكية حول قصر الجوهرة وسراي العدل بعطي الفرصة للتعامل مع الاحتفال كحدث لاحياء الذاكرة العمرانية على الجانب الشعبي والرسمي -ان مباني ومنشآت محمد علي بالقعة تمثل تجمعا نادرا للتعبير المعماري عن حقبة الحداثة في اطار مشروعها الي طرحها محمد علي ان القلعة بحكم موقعها بحكم موقعها من المدينة ككل تمثل مرجعهاً بصرياً عاماً يمكن خلال قيمته ورمزيته أن يكون للاحتفال مردود على مستوى المدينة ككل. ان تقنيات الانشاء والشبكات بالقلعة تسمح بتصميم حدث متطور للاحتفال يعتمد على تقنيات عالية في الاضاءة والصوتيات والانشاء مشاركة السكان لعدة اعتبارات ارتكزت مشاركة السكان في الاحتفال على تحديد مجال الاعمال الخاصة بالاعداد للاحتفال لتشمل تطوير وتجديد المساكن والمباني المحيطة بمسار الاحتفال وذلك ليس من باب الزينة، ولكن تأكيداً لمعنى الاحتفال كحدث تجديدي اشراك السكان في عملية التجديد والتطوير خلال مجموعات من الحرفيين المتطوعين مع توفير قدر متواضع من التمويل ليعمل كرأس مال دائر، لعمليات التطوير التي يمكن أن تستمر بعد الاحتفال ربط اعمال التطوير بالمناطق السكنية المحيطة باعمال التطوير والترميم داخل القلعة ذاتها وذلك خلال فرق الحرفيين الذين روعي في اختيارهم ان يكونو من المناطق المحيطة بالقلعة وبصفة عامة فقد كان تصور الاحتفال حدثا مرئيا من المنطقة السكنية ككل والاعداد له هو الذي يحيله الى جزء من عملية عمرانية تربط بين السكان والحدث الاحتفال كعملية ابداعية قام العمل لاعداد الاحتفال خلال ثلاث مجموعات الاولى: مجموعة مؤسسية وتضم ممثلين عن الوزارات المختلفة، ورؤساء الاحياء السكنية المحيطة بالقلعة ، ونائب محافظ القاهرة وممثلين عن كافة الهيئات المدنية المتصلة بالمرافق والخدمات المختلفة لمنطقة وسط القاهرة الثانية: مجموعات شعبية: وتضم ممثلين عن المجتمعات السكنية المحيطة. وكان تركيز عمل هذه المجموعات على محاولة طرح تصور بديل للموقف التقليدي للتحسين المؤقت للشوارع والساحات المحيطة بالاحتفالات، إلى عملية تحسين حقيقية تمس مكونات البيئة المحيطة بالاحتفال الثالثة: مجموعة ابداعية حرفية وتتكون من عدد من الفرق الصغيرة التي يضم كل منها عدداً من الحرفييين في مجال او اكثر ومعهم مصمم، او فنان، او فني متمرس وقد بلغ عدد هذه المجموعات حوالي 8 مجموعات كالاتي: الاعمال الحجرية: وقد تناولت اعمال التبليطات والرصف الحجري والبردورات واحواض الزهور وانشاء البوابة الجديدة لساحة السيارات والحوائظ والاسيجة الجوية الجديدة وكذلك المقاعد والمساند والعناصر الحجرية المحددة للساحات الرخام والالبستر: وقد تناولت اعادة بناء وترميم رخام نافورة قصر الجوهرة والمقاعد المحيطة به وارائك وجلسات الالبستر المختلفة الحديد المشغول والبوابات: وركزت على شباببيك قصر الجوهرة وخاصة الجزء الذي سبق حريقه وكذلك البوبابات المؤدية إلى القصر وكافة الاعمال الحديدية الجديدة وكذلك هيكل شاشة العرض .الاعمال الخشبية الانشائية: وتناولت هذه المجموعة اعمال الخشب للمدرجات ومنصة الاحتفالات بسعة حوالي 800 شخص الاعمال الخشبية الزخرفية: وتناولت اعادة بناء البرجولة الكبيرة لسلالم قصر الجوهرة. والاسيجة والبرجولات المحيطة بها وكذلك الابراج الخشبية المطلة على القاهرة وعلى حافة حائط القلعة الغربي .اعمال الشبكات والصحي .اعمال المزروعات والتشجير .اعمال الفوانيس والخيم والمعلقات برنامج التحسين والاحياء إحياء المدينة القديمة في اطار احتفالي كان الاحتفال بمثابة مناسبة كبرى للمدينة لاستكشاف امكانية رائعة للتحسين، فقد بلو أثناء الاحتفال عدد من المشروعات بدأت بأنشطة صغيرة ورمزية وقد وصلت الآن إلى خمسة مشروعات عمرانية وتجديدية تمثل في مجملها امكانية لاحداث انتقالية جوهرية في عمران المدينة القديمة وهي مشروع شارع قدري وشارع ماراسينا وتطوير ميداني السيدة زينب وكذلك مشروع ساحة سراي العدل والمباني المحيطة بها بققلعة محمد علي ومشروع حديقة الدراسة بالازهر والمشروع الاخير تطوير واعادة تخطيط منطقة شمال الجمالية والمشروعات الخمسة في مجملها هي بمثابة أمل ورؤيا لامكانية الربط بين أنشطة التطوير والترميم في المناطق التاريخية وبين الاحداث الاحتفالية الكبرى بالمدينة، وان كان احتفال القلعة قد لعب هذا الدور ودون قصد فالأمل أن يكون الاحتفال جزءاً من منهجنا واسلوب تعاملنا مع المدينة في مشروعاتنا القادمة والواقع ان هذه المشروعات كل على حدة والخمسة مجتمعة يمكن ان ترتكز نظريا على نفس الركائز التي طرحت في هذه المقالة وهو الطرح الذي يرى العلاقة بين المدينة وسكانها كحجر الزاوية في عمليات التطوير العمراني في المدينة |