المديول والبائكة
د.عبدالحليم ابراهيم
:خواطر حول مفاهيم العمارة الدولية والعمارة الحضارية
في صيف 1979 عدت الى مصر بعد غيبة تخطت اعوام عشرة، شهدت فيها العمارة انتقالة كبيرة مما عرف بالعمارة الحديثة، وشعاراتها السائدة تحت راية "الدولية". او "العالمية" الى توجه ثوري يعترف بالخصوصية والذاتية الحضارية للمجتمعات المختلفة ومن ثم يدعوالى عمارة تعبر عن هذه الهوية وتتفاعل مع بيئتها الطبيعية والحضارية.. لم يكن ذلك التوجه الجديد قد رفع لنفسه راية بديلة لراية "الدولية". او طرح شعارات تحتل مكان الشعارات القائمة، ولكن كان بلا شك قد هز اركان "الدولية" او "العالمية" المعمارية هزاً شديداً وحسبت ان هذه الغيبة الطويلة عن مصر، لابد وانها قد حجبت عني تغييرا وتحولا موازيا وان لم يكن مماثلا.. فقد مرت مصر في الستينات باحداث جسام سواء على الصعيد الاجتماعي، او الفكري او السياسي، وكانت العقول والافئدة تتجه نحو التغيير والتعبير عنه. حسبت ان العمارة سيكون لها النصيب الاوفر من ذلك التعبير سواء في التعليم او الممارسة :ولكن جل ما كان حسبي بعيدا عن الواقع ..صادف يوم وصولي موعد المعرض السنوي للطلاب بفم العمارة، فحمدت الله على هذه المصادفة، فسأرى في لحظة وصول في حصاد عام كامل من جهد الطلاب، دخلت قاعة المعرض وقفت مبهوتا، فقد عمني احساسي بتوقف الزمن وكأنني لم اغادر مصر طيلة هذه السنين ، نفس اللوحات ببياضها الناصع، مسطرة من اولها الى اخرها بذلك القانون الصارم وكأنه مفروض علينا، "Grid" "الجرد" هذه مشروعات الطلاب المتفوقين أوائل الدفعات تصطف امامي لتعلن حالة عجيبة من السكون الفكري الذي حرت في ان افهم له تفسيرا او تعليلا، واقتربت من احدهم، وعرفته بنفسي وطلبت منه ان يشرح لي فكرة مشروعة علني استشف من فكره ما تخفيه هذه الواجهات الممتدة من الزجاج، والسر في ان اعمدة مبانيه قد اصطفت من انضباط لا يختل بتنوع الوظيفة ولا يتغير ليفسح مكانا لحدث في المبنى او يمايزه عن اخر .. لا تباين او تناقض ، او حتى اشاره في هذه الاصطفافة العسكرية للتنويعات اللانهائية في انساق الاستعمال بالمكان .. او اعتبار لانماط الحياة العامة والتي لابد ان يعبر عنها المبنى في انشائه وفراغاته ورموزه ، ناهيك مواده وتقنياته نظرإليّ المعيد الشاب شارداً متحيراً، أو ربما مستغربا متعجبا، واجاب باقتضاب شديد على تساؤلاتي وبدا وكأنه يدلي إليّ بسر شخصي، او يطلق من بين شفتيه وصفة سحرية، فقال: ان فكرته مبنية على الـ"يونيفيرسال سباس". وصمت. وكأنه قال كل شئ.. وحين بدا عليّ عدم الفهم نظر الى في حيرة يملؤ نصفها التعجب والنصف الثاني التشكك في قدرتي على فهم الطلسم او الايقونه التي اباح بسرها لي: "اليونيفرسال سباس".ا والحقيقة انني لم افهم ماذا قصد بالـ"يونيفرسال سباس"، وكيف لهذا الطلسم ان يكون اساسا فكريا لمبنى عام بمصر التي تتمخض كل مكنوناتها الشعبية عن هوية وذاتيه حضارية او هكذا حسبت فبدات معه حوار حسبت انه سيوضح الامور: سالت عن هذه الخطوط المتراصه افقيا وراسيا والتي تملؤ لوحته في رضوخ وامتثال لا تحيد عنه سواء في داخل المبنى او خارجه في ادق عناصره او في اكثرها عمومية ، في مركزه او في اطرافه ."وسألت ماهذا؟ قال الفتى مستنكرا : دي "الجرد"... ولما لم يبدو على وجهي تغير ينم عن اي درجه من الفهم لما يقول، استطرد شارحا انه لابد لكي ينقل فكرة الـ"يونيفرسال سباس" الى البلان ان يرسم الجرد على الشاسية وقلت نعم فهمت، ولكن لماذا؟... قال مستمرا في بلاغته المعمارية "علشان المديول بتاعي ينضبط وقلت :اه.. من هنا نبدأ. حييت الفتى فقد كان دمثا متأدبا، وابتعدت قليلاً في زحام المعرض التمس بعض الوضوح. وجالت في خاطري عشرات الرؤى وانا احاول ان اشغل نفسي بمراقبة الوجوه في المعرض السنوي للقسم: أيدرك هؤلاء الطلاب موقع أعمالهم مما يحدث للعمارة في العالم.. هذه هي ايقونات الدولية المعمارية: المديول، والجرد، واليونيفرسال سباس، ترفع في اعمالهم إلى درجة التميز والابداع. وهي ذات الرموز التي إنهال عليها ابناؤها من معماري الغرب ومفكريه شجبا ونقدا وهجوما.. بل وتحطيما في بعض الاحيان. أيرى ذلك المهندس الشاب أين يقع عمله من ثورة طلاب مدرسة الفنون الجميلة العليا بباريس عام 1968، وكيف انطلقت هذه الشرارة الداعية لمراجعة كل المبادئ التي قامت عليها العمارة الحديثة والدولية إلى الولايات المتحدة لتشتبك مع حركة حقوق الانسان التي عقبت حرب الفيتنام لتشكل واحدة من اهم الحركات الفكرية في تاريخ مدارس العمارة في الولايات المتحدة.. ماذا سيقول لو وضعت امامه صورة لساحة نيرون بالقصر الكبير بروما- ثم عبرت به حتى عصر النهضة ثم عصر الثورة الصناعية إلى نشأة الدولية المعمارية.. ثم ماذا لو وضعنا امامه صورة لمعهد ريتشارد للبحوث الطبية بجامعة بنسلفانيا. ورأينا النقلة التي حدثت للمديول. ثم اخيرا.. ماذا لو اطلعناه على اعمال رواد الثورة. او الردة الجديدة.. مثلا عمل من اعمال ميخائيل جراف ولكن ماذا لو أدار هذه المعماري الشاب ظهره لهذا المراجعة التي يعيشها الغرب لمديوله ومفاهيمه: وحاول ان يستقرأ في تراث امته هو وحضارتها اصولا لتنظيم الفراغ.. فما هو المقابل للمديول.. وما هو المفهوم الذي يستخرجه من هذا المقابل.. فلو نظر مثلا لتلك اللوحة في اوزباكستان والتي كان يستعين بها المعماري في البناء لرأى شبكة مثلها مثل "الجرد" التي يستخدمها هو اليوم، ولكنه في نفس الوقت لتبين أن الوحدة الفراغية التي تتشكل على هذه الشبكة تختلف عن المديول.. فهي هنا مستقلة عن الشبكة، ولكنها ايضا متصلة بها.. مستقلة في كونها قادرة ان تشكل تنويعات متباينة للفراغ ما بين مثمن ذو ايوانين، او مسدس ذو اربعة ايوانات.. ولكنها في ذات الوقت وحدة متسقة ومنتظمة بحكم اتصالها بالشبكة .. الهام هنا التلازم بين استقلال التشكيل من جهه، والتزام التنظيم والبناء من جهه اخرى لا يكمن في التنويعات الفراغيه الناتجه فحسب، ولكن والأهم هو في السمو بمفهوم الفراغ الى حس بالتوحيد بين الجزء والكل يقرب المبنى من ترجمة اعمق واقتراب اكثر الى مفهوم الوجود في حضارتنا والذي يرتكز على فكرة التوحيد بمعنى اخر فإن "البائكة"، (وهو اسم هذه الوحدة) تمتثل لطبيعة المادة سواء كانت حجراً أو طوباً وكذلك لطريقة الإنشاء وتقنيته وهذا ما يتمثل في الشبكة، ولكن كوحدة فراغية فانها باستقلالها عن الشبكة تنصاع لإرادة المعماري في التشكيل والتجميع والتي ينظمها مبدأ التوحيد ."البائكة هي بديل أو مقابل حضاري للمديول والتوحيد هو مفهومنا البديل لـ"اليونفرسال سباس :لننظر مثلا لمبنى تاج محل بالهند أولاً: المستقط الأفقي ينمّ عن اتساق وتوحد قد تكون تنظمه شبكة خفية مثل تلك التي رأيناها في رسم المعماري المغولي، ولكن حٍسّ التوحد في اتجاه بائكاته نحو مركز واحد هو ما يعطي للمبنى حساً .أسمى للنظام.. وحس فني لمفهوم التوحيد ثانياً: الفارق هنا بين النظام أو الوحدة التي تنشئ عن المديول مقابلاً بالبائكة يمكن ان يرى كفارق بين ."Unity" مفهومين للوحدة فإذا كانت الوحدة في المفهوم الموديولي تأتي بالتكرار.. أو التقسيم وكلها عمليات فراغية تستلزم في النهاية إحداثاً للوحدة خلال تكامل الأجزاء.. في كل واحد خلال الشبكة المديولية-أو خلال ."Integration"مفاهيم الفراغ الأخرى- التي تقع أيضاً تحت مفهوم التكامل للأجزاء فإنه في حالة البائكة فإن الوحدة تأتي بالتحولات الداخلية للفراغ، ان المبنى يبدأ من نقطة أو مفهوم واحد.. منه تتفاضل الأجزاء.. وأن كل جزء في صفاته له استقلاله، ولكن توحده يأتي من أنه جزء ."Differentiation" من ذلك الكل. وهي عملية أشبه بعمليات التفاضل الرياضية ثالثاً: إذا انتقلنا من المبنى الواحد إلى مجموعة من المباني لوجدنا التباين أوضح. وأكثر أهمية بين مفهومي الموديول والبائكة.. فعلى مقياس المدينة مثلاً نرى فكرة استقلال التشكيل-والتزام التنظيم هنا تأخذ مفهوما رائعا يتعامل مع التشكيل من منطلق الفراغ العمراني على مستوى المدينة- والتنظيم على مستوى الحركة والتوجيه وغير ذلك من محددات النظام والبناء بالمدينة .مقابل ذلك ما نراه في التنظيم الشبكي أو المديولي للمدينة. والذي يمكن ان نرى التباين بين النسقين في مدينة واحدة هي مدينة اصفهان فالجزء الحديث"نسبياً" فيها نظم حول مفهوم المحاور والمديول، .اما الجزء القديم أو البازار، والذي شيّد من منطلق فكرة البائكة ومبدأ "التوحيد" نراه وقد أخذ كل جزء فيه موضعه وموقعه واتجاهه. ولكن الكل يتوحد في نسق وان لم يمتثل لمحور او لتكرار بسيط ساذج الا ان الوحدة فيه تعكس ذلك التوازن والتمازج الرائع بين استقلال التعبير والتزام التنظيم واذا تركنا المخطط العام للمدينة ونظرنا لاجزاء هامه فيها مثل المسجد مثلا والذي تتكرر فيه البائكة لتكون اروقه الصلاة وغيرها من الفراغات ونظرنا لامثله مثل مسجد الشاه والمسجد الكبير على طرفي البازار باصفهان لوجدنا ان استقلال البائكة لم يتعارض مثلا مع الالتزام بالتوجه نحو القبلة ، بل على العكس أعطى ثراء بالغا ووحدة أسمى للفراغ اما المسجد الكبير فإن الانتظام الواضح في أروقه الصلاة ليس بأي حال إلغاء لإستقلال البائكة بل هو توازن مع ذلك الاستقلال ، ودليل ذلك ما نراه عند الايوانات الاربعة الكبيرة على جوانب الساحة الداخلية، او معالجات البائكات المتميزة والمتنوعة على حواف المسجد وحدوده نظرت حولي: حوائط المعرض تمتلؤ بلوحات لا تختلف كثيراً عن لوحة صاحبنا ولكن الوجوه تتباين واستدرت في الزحام لأبحث عنه حتى اخبره لما ورد في خاطري بشأن المديول والبائكة ولكن لفت نظري أن كثيراً من الطلاب قد أطلقوا لحاهم وارتدوا قمصاناً طويلة اشبه بالجلاليب، وأن كثيراً من الطالبات قد غطوا رؤوسهن بما سمى بالحجاب، وعجبت للظاهرة والتي لم يكن لها اثر بالقسم حين غادرته منذ سنوات، وتساءلت هل يدور في خلد هؤلاء الشباب والشابات أن جوهر الاسلام الحنيف وهو التوحيد بالله العلي القدير له مدلول فراغي، وماذا يكون وقع هذه الخواطر التي مرت بذهني عابرة حول فكرة البائكة ومفهوم التوحيد في الفراغ، قطع تفكيري وجه صاحبنا الذي لمحته في الزحام ما زال قابعا بجوار مشورعه، وسارعت في ترتيب أفكاري استعدادا لطرحها عليه .أولاً: قلت لنفسي أن الفارق بين "المديول" و "البائكة" هو فارق بين مفهومين وليس بين شكلين، المفهوم الاول صناعي في منطقه، علماني في فكره وتوجهاته ، وتراكمي اي تكراري في قانونه .والمفهوم الثاني، حضاري في اصوله ومنطقه، ايماني في فكره وتوجهاته، وتجددي في قانونه .ثانياً: اذا لم يفهم صديقنا هذا الكلام فإنني سأطرحه بشكل آخر إن "المديول" هو تعبير عن الفكر والبيئة الصناعية. ومن ثم فانه يتبع قانونها ."Reproduction""وهو "إعادة إنتاج الشئ . بصورة مطلقة من الداخل والخارج"Grid"وهذا ما يفسر الاستغراق شبه الاعمى في تكرار المديول على شبكة ما "البائكة" فهي تعبير عن تكامل الانتاج والحضارة، ومن قم فهي تتبع القانون الذي يحكم كل المنتجات "Regeneration" الحضارية، وهو قانون "التجدد" او .اي ان كل شئ ينتج في إطار حضاري فيه جده وابداع واصالة حتى ولو اتحد مع مقيله من الاشياء الاخرى في نسقه العام وتستوي في ذلك "البائكة" في المبنى او قطعة خزف، أو رداء شعبي ."Order"ثالثاً: وهذا ما هو هام لصديقنا، هام لي أيضاً ذلك هو موضوع النسق العام للمبنى او الـ .فإن النسق العام الذي ينشأ عن المفهوم المديولي خال من الحيوية الحضارية لأنه ينشأ عن التكرار الافقي أو الرأسي أو كليهما، ولا يمكن للتكرار ان يولد حيوية في الفراغ ، وانما الامر يحتاج لفكرة أو مبدأ موحد يستقطب الاجزاء ويجمعها في ودة اكبر من محض رصها، او تجميعها حول فناء أو على ممر على المقابل فإن النسق العام الذي ينشأ عن مفهوم "البائكة" هو نسق يضج بحيوية هادئة، تنبع كما أوضحنا من أن الفراغ يتشكل أصلاً من نقطة موحدة، أو مفهوم للتوحيد تتفاضل منه هذه الاجزاء، وأن الجزء دائما يسعى إلى التوحد مع الكل دون أن يفقد استقلاله الفراغي ، وفي ذات الوقت التزامه بالنسق العام أو البناء وحين وصلت إلى هذه النقطة تنبهت إلى انني قد لمست سطح أمر بالغ التعقيد وأن خواطري لم تمس سوى مفهومي "الوحدة" و"التوحيد" كأساس للتميز بين المديول والبائكة، أو بين الفكر الصناعي الذي أعطى ميلاداً للعمارة الحديثة وبين الفكر الحضاري الي يمكن أن يعطى ميلاداً مرة اخرى لعمارة اصيلة ومحلية كما سبق واعطى ميلاداً لكل الانجازات العبقرية على مر العصور، أدركت أن هناك الكثير ي المفاهيم التي يجب أن ابلورها حتى تتكامل الصورة امام صديقنا، مثل مفهوم "الداخل والخارج" أو مفهوم " المركز والاطراف" ..وغيرها، ولكنني عقدت العزم على ان اخبره بما وصلت اليه على كل حال. قبل ان اصل إلى صاحبنا، رأيت الجمع في صالة المعرض ينحسر ليفتح دائرة كبيره في الفراغ واستيقظت من تأمرلات على دعوة رئيس القسم لتوزيع الجوائز على الاوائل، ووقفت على بعد اتأمل واحاول اختزان خواطري لمناسبة اخرى، جلس القسم وعلى يمينه استاذ جليل من جيل الرواد وعلى يساره، ولدهشتي شاب في جلباب ابيض ذو لحية قصيره، ونادى رئيس القسم على الأول، ودخل صاحبنا بسرواله البلوجينز ليتسلم الجائزة من الشاب ذي الجلباب الابيض، وكانت مواجهه بليغى بين رمزين وقلت في سري بصره .وصاحبنا ذو السروال الازرق الجينز لم يفهم المديول .وصاحبنا ذو الجلباب الابيض لم يفهم البائكة .وإلى لقاء في المعرض القادم |